فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل}
الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلا أن ذاك أبلغ وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواترًا وكيف في محل نصب على المصدرية بفعل والمعنى أي فعل فعل وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل لا بـ: {ألم تر} لمكان الاستفهام والجملة سادة مسد المفعولين لتر وجوز بعضهم نصب كيف بتر لانسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في (شرح المفتاح) الشريفي وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل وذهب السهيلي أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يومًا وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول وقال الحافظ الدمياطي بخمسة وخمسين يومًا وقيل بأربعين وقيل بشهر والمشهور ما ذهب إليه السهيلي وفي قوله تعالى: {رَبَّكَ} نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس: خلأت أي حزنت «ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل» إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناءً على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى وقيل إنه الحميري خرج على ارباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بكسر النون بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته ثم أنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سماها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام وكتب إلى النجاشي إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجر العرب فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال من صنع هذا فقيل رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك اصرف إليها حج العرب ففعل ذلك فاستشاط أبرهة غضبًا وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وقيل أججت رفقة من العرب نارًا حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت فخرج في ستين ألفًا على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويًا عظيمًا واثنا عشر فيلًا غيره وقيل ثمانية وروي ذلك عن الضحاك وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقًا عليهم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرًا فأراد قتله فقال أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرًا فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس كمعظم موضع بطريق الطائف معروف فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرًا فيه حديثًا رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعًا وقال فيما تقدم بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم أن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلًا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذٍ سيد قريش فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال قل لسيد أهل هذا البلد أن الملك يقول: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فإنني به فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وأن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًا وعشيًا ما عندي غناءً في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي فبعث إليه فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت فقال افعل فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلى على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلا أن يقال أنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فقال حاجتي أن يرد على الملك إبلي فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب: إني رب الإبل وإن للبيت ربًا سيمنعه قال ما كان ليمنع مني قال أنت وذاك، وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثقانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفًا من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة:
لا هم أن المرء يم ** نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليـ ** ـب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم ** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم ** جهلًا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعب ** تنا فأمر ما بدا لك

وقال أيضًا:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ** يا رب فامنع عنهم حماكا

أن عدو البيت من عادا كا ** امنعهم أن يخربوا فناكا

ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن جبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بإذنه فقال ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل إذن فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك فوجهوه إلى مكة فبرك فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك وقيل إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر وأرسل الله تعالى طيرًا من البحر قيل سودًا وقيل خضرًا وقيل بيضًا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم:
أين المفر والاله الطالب ** والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضًا:
ألا حييت عنا يا ردينا ** نعمناكم عن الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه ** لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري ** ولا تأسى على ما فات بينا

فكل القوم تسأل عن نفيل ** كأن عليه للحبشان دينا

وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة:
سائل أمير الحبش عنا ما ترى ** ولسوف يلبي الجاهلين عليمها

ستون ألفًا لم يؤبوا أرضهم ** بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه فلما فرغ ألقى عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم وقيل إن سائس الفيل وقائده تخلفًا في مكة فسلما فعن عائشة أنها قالت: أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضًا ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعًا فرجع رافعًا رأسه كاشفًا عن فخذه فلما رأى ذلك أبوه قال ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلا بشيرًا أو نذيرًا فلما دنا من ناديهم قالوا ما وراءك قال هلكوا جميعًا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والافيالا ** وقد رعوا بمكة الاحبالا

وقد خشينا منهم القتالا ** وكل أمر منهم معضالا

شكرًا وحمدًا لك ذا الجلالا

هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير.
وقرأ السلمي {ألم تر} بسكون الراء جدًا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم قيل والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماءً إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ} إلخ.
بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال ومنه قيل لامرئ القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}
أي جماعات جمع إبالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة وحكى الفراء إبالة مخففًا وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضًا في غيرها ومنه قوله:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

وقيل واحده إبول مثل عجول وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال وقال أبو عبيدة والفراء لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية وزعم بعض أن حمام الحرم من نسلها ولا يصح ذلك ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها وعن عكرمة كأن وجهوها مثل وجوه السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} صفة أخرى لطير وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة.
وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية {يرميهم} بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضًا والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان وقيل الضمير عائد على {ربك} وليس بذاك ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في (البحر) وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراءات المنسوبة له موضوعة {مّن سِجّيلٍ} صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذي يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية وقيل من الاسجال بمعنى الإرسال والمعنى من مثل شيء مرسل ومن في جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ منه السجين وجعل علمًا للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبعيضية واختلف في حجم تلك الطير وكذا في حجم تلك الحجارة فمن أنها مثل الخطاطيف وأن الحجارة أمثال الحمص والعدس.
وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي أنه قال رأيت الحصى التي رمى بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص وأكبر من العدس حمر بحتمة كأنها جزع ظفار.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال حجارة مثل البندق وفي رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية هي طير خرجت من قبلة البحر كأنها رجال السند معها حجارة أمثال الإبل الوارك وأصغرها مثل رؤوس الرجال لا تريد أحدا منهم إلا أصابته ولا أصابته إلا قتلته والمعول عليه أن الطير في الحجم كالخطاطيف وأن الحجارة منها ما هو كالحمصة ودوينها وفويقها.
وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح أنه مكتوب على الحجر اسم من رمى به واسم أبيه وأنه رأى ذلك عند أم هانئ.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}
كورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرًا منه والكلام على هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو على الإسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم أو لأن الحجر بحرارته يحرق أجوافهم وذهب غير واحد إلى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث إلا أنه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الآداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ففيه إظهار تشويه حالهم وقيل المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لا يمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لا يلتفت إليهم أحد ولا يجمعهم ولا يدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ما شاءت لعدم حافظ له إلا أنه وضع مأكول موضع أكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب إهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبههم فيما فعل سبحانه بهم على القول الأخير بالروث أو لما أن الذي أثاره احتراقها بما حملته الريح من نار العرب على ما سمعت شبههم عز وجل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ما أشرنا إليه أخيرًا.
وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه {مأكول} بفتح الهمزة اتباعًا لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما أتبعوا في قولهم محموم الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم. اهـ.